العرب وطاقة الاندماج النووي: مبادرات أكاديمية بانتظار الحكومات والمستثمرين
المبادرة العربية للطاقة الاندماجية: خطوة بالاتجاه الصحيح

طاقة الاندماج النووي تنتج عن العملية التي تزوّد الشمس بالطاقة، المتمثلة باندماج ذرتين خفيفتين لتوليد ذرة أثقل. ويتم استخدام عناصر وفيرة في الطبيعة مثل نظائر الهيدروجين كالديوتيريوم الموجود في مياه البحار، والتريتيوم، الذي يتم إنتاجه من عنصر الليثيوم. وتولد هذه العملية طاقة لا نهائية تلبّي حاجات البشرية لقرون قادمة، دون انبعاثات ضارّة أو نفايات مشعة طويلة الأمد. كما أنها لا تعتمد على تفاعلات تسلسلية قد تخرج عن السيطرة، مما يقلل من احتمال حدوث حوادث نووية خطيرة.
ومع أن هذه التقنية ما زالت في طور البحث والتطوير، فإنها تُعد خياراً واعداً لطاقة نظيفة وآمنة في المستقبل. وذلك بعكس التقنيات الحالية المعتمدة على الانشطار النووي، الذي ينتج عن تفاعل تنقسم فيه نواة الذرة إلى نواتين أو أكثر. وهذا النوع من التفاعل يولّد نفايات نووية مشعة طويلة الأمد، ويواجه تحديات فيما يخص سلامة التشغيل وإدارة النفايات.
تطور سريع للطاقة الاندماجية
تُعتبر الطاقة ركيزة أساسية ومؤشراً للتنمية البشرية، وهي محورية في تحقيق الاستدامة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. في ظل تزايد الطلب على الطاقة، من الضروري تأمين مصادر طاقة نظيفة ومستدامة. وفي العام 2023، كان الوقود الأحفوري يوفر نحو 61 في المئة من إجمالي الطلب العالمي على الكهرباء. وفي الدول النامية والعربية تحديداً، لا تزال بعض الدول تعتمد بشكل شبه كامل على الوقود الأحفوري في إنتاج الطاقة.
إقرأ أيضاً: طاقة الاندماج النووي: سباق أميركي صيني على «صناعة الشمس» (1 من 5)
طاقة الاندماج النووي: أنواع المفاعلات وطرق الاندماج (5 من 5)
تشهد برامج الاندماج النووي تطوراً سريعاً، انطلاقاً من الحاجة الملحّة لإيجاد مصادر طاقة نظيفة وآمنة تواكب الطلب العالمي المتزايد وتحد من الانبعاثات الكربونية. ويُعد مشروع ITER (المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي) في فرنسا، أبرز هذه المبادرات. حيث يشارك فيه أكثر من 35 بلداً، من ضمنها الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، الصين، روسيا، الهند، اليابان وكوريا الجنوبية. ويهدف المشروع إلى بناء أول مفاعل اندماج. ويُتوقع أن يكون الخطوة الأولى نحو تشغيل محطات طاقة اندماجية تجارية مستقبلاً.
نمو كبير للاستثمارات الخاصة
كما تعمل عدة دول على تطوير مشاريعها الخاصة. ففي الولايات المتحدة، تموّل وزارة الطاقة العديد من مراكز البحوث. بالإضافة إلى مبادرات عدد من الشركات الخاصة مثل Commonwealth Fusion Systems وHelion Energy وTAE Technologies. أما الصين، فقد أحرزت تقدماً كبيراً من خلال مفاعلها التجريبي EAST، الذي سجل أرقاماً قياسية في درجة حرارة البلازما واستقرارها. وفي المملكة المتحدة، تقود شركة Tokamak Energy ومشروع STEP (Spherical Tokamak for Energy Production) جهوداً لتحويل أبحاث الاندماج إلى تطبيقات عملية قابلة للتنفيذ خلال العقود القادمة. أما كوريا الجنوبية، فهي تعمل على مفاعل KSTAR الذي يُعرف أيضاً بـ “الشمس الكورية”. وقد أظهرت تجارب ناجحة في الحفاظ على بلازما الاندماج في درجات حرارة عالية لفترات غير مسبوقة. كما بدأت ألمانيا، من خلال جهاز Wendelstein 7-X، في استكشاف تصاميم الاندماج من نوع (Stellarator) “ستيلاراتور”. التي يُعتقد أنها توفر استقراراً أفضل للبلازما على المدى الطويل.
ومن الجدير بالذكر أنّ من المتوقع أن تصل قيمة سوق طاقة الاندماج النووي عالماً إلى أكثر من 40 مليار دولار بحلول عام 2030 (بحسب تقرير ماكينزي، 2022). أما على صعيد الاستثمار الخاص، فقد تجاوزت الاستثمارات في قطاع الاندماج النووي 7.1 مليارات دولار (وفقًا لجمعية صناعة الاندماج النووي). مما يشير إلى اهتمام تجاري قوي ومتزايد بهذه التقنية.
مبادرات أكاديمية في الدول العربية
تشهد الدول العربية بدايات متفرقة لكن واعدة في مجال فيزياء البلازما، وهو العلم الذي يدرس سلوك الغازات المؤيّنة. وله تطبيقات متعددة تتجاوز نطاق طاقة الاندماج، مثل معالجة المواد، وتطبيقات طبية وصناعية، وحتى في الفضاء. أما أبحاث طاقة الاندماج، فهي تمثّل أحد فروع فيزياء البلازما المتقدّمة. وتركّز على تسخير سلوك البلازما لإنتاج طاقة شبيهة بتلك التي تُولد في قلب الشمس.
في مصر، يظهر اهتمام واضح بهذا المجال من خلال وجود عدد كبير من علماء فيزياء البلازما. ففي جامعة الإسكندرية، تُطرح برامج ماجستير ودكتوراه في هذا التخصص. بالإضافة إلى مسار أكاديمي في الاندماج النووي داخل قسم الهندسة النووية والإشعاعية. أما في جامعة الزقازيق، فينشط مختبر أبحاث البلازما وتطبيقات الطاقة في أبحاث الكيمياء البلازمية. وفي معهد تكنولوجيا البلازما بجامعة الأزهر، يتم العمل على استخدام الأوزون في معالجة النفايات والفحم. إلى جانب أبحاث ترسيب المواد باستخدام بلازما الترددات الراديوية، والتحقيق في إصدار الجسيمات عالية الطاقة والأشعة السينية. كما أنّ “الجمعية المصرية للبلازما” (EGYPlasma)، وهي منصة إلكترونية تقدّم محتوى تعليمياً حول فيزياء البلازما، وتوفّر دروسًا حول الكتابة العلمية والبرمجة.
جهاز البلازما الخطي في الجامعة الأمريكية
أما في لبنان، فتقود الجامعة الأمريكية في بيروت (AUB) جهوداً مميزة في مجال طاقة الاندماج. حيث تم إنشاء جهاز محاكاة بلازما خطي لتدريب الطلاب والباحثين. وتُجرى فيها أبحاث متقدمة على اضطرابات الحافة في أجهزة التوكاماك (Tokamak)، وخصائص الحصر، وتطوير أدوات تشخيصية مبتكرة. كما تشارك AUB في مشروع إقليمي طموح بالتعاون مع جامعة تونس المنار، والمركز الوطني للعلوم والتقنيات النووية، ومعهد فيزياء البلازما التابع للأكاديمية الصينية للعلوم، بهدف تصميم وبناء جهاز اختباري يستخدم مصادر ترددات راديوية لدراسة المواد المخصصة لتطبيقات الاندماج.
في العراق، تبذل جامعة بغداد محاولة جادة للبدء في بناء جهاز اندماج حلقي (Toroidal Device). في حين يستضيف الأردن مركز “سيسامي”(SESAME)، وهو مسرّع إلكتروني ينتج ضوء السينكروترون (Synchrotron) ويخدم مجالات بحثية واسعة. كما يتم تشغيل مفاعل نووي بحثي بقدرة 5 ميغاواط منذ عام 2017.
إقرأ: الاندماج النووي: مفاعل صيني خارق وفوز مستحق على أميركا
تعكس هذه الجهود اهتمام الدول العربية المتزايد بمواكبة التطورات العالمية في مجال طاقة الاندماج. ومع ذلك، لا تزال المبادرات متفرقة وخجولة. في حين أنّ المطلوب هو بناء نهج موحّد على المستوى الإقليمي يسرّع وتيرة التقدّم ويضعها في مصاف الدول الرائدة في هذا المجال. ورغم أن هذه التكنولوجيا لا تزال في طور التطوير عالمياً، فإن على الدول العربية أن تبدأ بالاستعداد من الآن حتى تواكب الأبحاث والتطورات التي تصدر عالميًا في هذا المجال. لقد أصبح من الضروري للدول العربية ألّا تظل في موقع المتفرّج، بل أن تتخذ خطوات استباقية عبر بناء القدرات المحلية، وتوجيه الاستثمارات نحو الأبحاث والتعليم، وتأسيس شراكات استراتيجية مع المؤسسات العالمية العاملة في هذا المجال. وذلك ما تطمح إليه المبادرة العربية للطاقة الاندماجية.
المبادرة العربية للطاقة الاندماجية AFEI
في وقت يشهد فيه العالم تحوّلاً غير مسبوق في قطاع الطاقة المتجدّدة، تواجه الدول العربية خياراً مصيرياً. إما البقاء ضمن دائرة الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية، أو التطلع نحو المستقبل من خلال الاستثمار في مصادر طاقة نظيفة ومستدامة. وتأتي المبادرة العربية للطاقة الاندماجية AFEI، التي أُطلقت تحت رعاية الجامعة الأمريكية في بيروت AUB عام 2023، لتجسّد الخيار الثاني برؤية طموحة وجريئة. هي أول مبادرة تستهدف تمكين الباحثين والشباب والمؤسسات من المشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل الطاقة.
إقرأ: سباق الاندماج النووي: متى يغادر العرب مقاعد المتفرجين؟
تهدف المبادرة إلى إنشاء منصة إقليمية لتعزيز علوم وهندسة الاندماج النووي. وذلك من خلال بناء القدرات البشرية، ودعم الأبحاث، وربط الكفاءات العربية بالمنظومة العالمية للطاقة الاندماجية. كما تسعى إلى تدريب الجيل القادم من علماء ومهندسي الاندماج النووي في العالم العربي، ودعم الابتكار في هذا المجال. بالإضافة إلى خلق جسور للتعاون العربي العالمي عبر تسهيل مشاركة الباحثين العرب في التجارب الدولية الكبرى والمشاريع العالمية للطاقة الاندماجية.

ولا تقتصر المبادرة على البحث العلمي فحسب، بل تسعى إلى خلق بيئة تمكينية للباحثين، ودعم الطاقات الشبابية، وتحفيز المؤسسات الأكاديمية والصناعية العربية للانخراط الفعّال في هذا المسار الجديد.
-
تطوير القدرات البشرية
تولي مبادرة AFEI أهمية كبيرة لتطوير الموارد البشرية في مجال طاقة الاندماج النووي. إدراكاً منها بأن أي نهضة علمية حقيقية تبدأ ببناء الإنسان. وضمن هذا الإطار، تسعى المبادرة إلى إعداد جيل جديد من العلماء والمهندسين والفنيين العرب المؤهلين. من خلال تصميم برامج تعليمية وتدريبية متقدمة في فيزياء البلازما وعلوم الاندماج النووي موجهة للجامعات والمراكز البحثية في المنطقة. كما تعمل على تطوير مناهج دراسية متخصصة، وتنظيم مدارس صيفية ومؤتمرات علمية تسهم في صقل مهارات الطلاب والباحثين. وتشجع AFEI على مشاركة الكفاءات العربية في الأنشطة العلمية العالمية. بما يفتح المجال أمامهم للاطلاع على أحدث التطورات في هذا الحقل.
إلى جانب ذلك، تسعى المبادرة إلى رفع مستوى الوعي المجتمعي بأهمية طاقة الاندماج، من خلال تنظيم فعاليات عامة ونشر محتوى مبسط يسلّط الضوء على مزايا هذه الطاقة كمصدر نظيف وآمن ومستدام.
-
تطوير القدرات التقنية
أما على صعيد القدرات التقنية، فتهدف المبادرة إلى بناء منظومة علمية وعملية متكاملة تعزز موقع العالم العربي في خارطة الطاقة الاندماجية العالمية. وتعمل AFEI على تنسيق الجهود البحثية بين المؤسسات العربية. بما يضمن تكامل الخبرات وتبادل المعرفة عبر المنطقة. وتسعى إلى إطلاق مشاريع بحثية طموحة. في مقدمتها تصميم وإنشاء جهاز توكاماك متوسط الحجم في إحدى الدول العربية، ليكون بمثابة منصة إقليمية للبحث والتدريب.
كما تحرص المبادرة على بناء شراكات استراتيجية مع مراكز الأبحاث العالمية الرائدة، بهدف نقل التكنولوجيا وتعزيز التعاون العلمي. وفي هذا الإطار، تتعاون AFEI مع جامعة الدول العربية للمساهمة في وضع رؤية موحدة لتطوير طاقة الاندماج في المنطقة. كما تبادر إلى تقديم الاستشارات للحكومات والمؤسسات الخاصة حول واقع الطاقة الاندماجية وفرص الاستثمار فيها. ما يساعد في صياغة سياسات علمية وتقنية فعالة تدعم الانتقال إلى مستقبل طاقي نظيف وآمن في العالم العربي.
تستثمر الدول الكبرى – من الولايات المتحدة إلى الصين والاتحاد الأوروبي – مليارات الدولارات في طاقة الاندماج. وإن لم تبدأ الدول العربية الآن، فستجد نفسها مستهلكة فقط، لا شريكة ورائدة في هذا النطاق. أنه نداء استباقي للمنطقة كي تشارك وتقود وتبتكر في هذا المجال الواعد.
عضو المبادرة العربية للطاقة الاندماجية