غسيل النفط الروسي: معادلة «جهنمية» لزيادة الصادرات وتخفيض العائدات (2 من 2)

وصفت أميركا وأوربا العقوبات على النفط الروسي بغير المسبوقة. أما “الزعيم” بوتين، فوصفها بإعلان حرب اقتصادية. ولكن التدقيق في حجم غسيل النفط الروسي يوضح أن أهداف العقوبات تتمثل بترسيخ معادلة جهنمية. قوامها إنتاج وتصدير النفط بأعلى المعدلات.. والبيع بأقل الأسعار.

وربما يكون تحريك مشروع قانون “نوبك” في الكونغرس الأميركي الأسبوع الماضي بمثابة “جس نبض” لإمكانية تطبيق هذه المعادلة على دول الأوبك.

إحياء استخدام النفط كسلاح

وزيرة الخزانة الأميركية لخصت المسألة بصدق وشفافية بقولها: “العقوبات بدأت تحقق أهدافها بجعل النفط الروسي متاحاً في الأسواق مع الحد من إيرادات موسكو المالية”. أما وكالة الطاقة الدولية، التي تم تأسيها أصلاً لمحاربة الدول المنتجة للنفط، فوثقت هذا التصريح بالأرقام في تقريرها الشهري. وجاء فيه أن عوائد صادرات النفط الروسية هبطت لأدنى مستوياتها في شهر فبراير الماضي. لتصل إلى 11.6 مليار دولار بتراجع نسبته 40 في المئة عن السنة الماضية. وذكر التقرير أن النفط الخام الروسي والمنتجات البترولية تم بيعها بأقل كثيراً من سقف الأسعار. ووصل متوسط السعر المرجح لتصدير الخام إلى 52.48 دولار للبرميل، بالمقارنة مع سقف الأسعار البالغ 60 دولاراً.

وفي المقابل، نجحت روسيا بفضل عمليات التهريب وغسيل النفط التي أشرنا إليها في الجزء الأول من هذا التقرير، في الحفاظ على “متوسط إنتاج يومي خلال الشهرين الماضيين بلغ 10.4 ملايين برميل يومياً. بتراجع طفيف عن العام الماضي قدره 740 ألف برميل يومياً”، كما ذكر تقرير وكالة الطاقة الدولية.

حرب أم ضحك على الذقون

بين تجاهل بل تشجيع الدول الغربية، لقيام روسيا بخرق العقوبات وتهريب وغسيل نفطها. وبين قبول روسيا البيع بأقل من سقف السعر، يظهر مدى زيف وتهافت سياسة العقوبات والحظر. كما يظهر في المقابل زيف إدعاءات “إعلان الحرب الاقتصادية”. ولتتضح الحقيقة ان كلا الجانبين يمارسان بدون أي ضوابط تلك السياسة المدمرة لاستخدام النفط كسلاح سياسي.

يتضح من التدقيق في العقوبات والحظر وحتى فرض السقف السعري، واعتماد سياسة التدرج في إصدار الإجراءات. أن هذه العقوبات صممت بطريقة ضبابية ومجتزأة، بعكس العقوبات على إيران وفنزويلا، وكأنها وضعت لكي يتم خرقها. خاصة مع الأخذ بالاعتبار التساهل في تطبيقها و تجاهل الخروقات.

إقرأ أيضاً: غسيل النفط الروسي: «مصابغ» صينية و«سفن أشباح» إيرانية (1 من 2)

فالسقف السعري مثلاً ينطبق على مجموعة الدول السبع والدول التي وافقت على الالتزام به فقط. وتنسحب الضبابية على حظر استيراد النفط. فهو ينطبق على النفط المنقول بحراً فقط. وليس عبر خطوط الأنابيب. والسبب معروف وهو ان روسيا تصدر نفطها عبر خطين رئيسيين للأنابيب. الأول إلى الصين، ولا تستطيع أوروبا وأميركا إلزامها بتطبيق الحظر ووقف استخدام الخط. والثاني يربط حقول سيبيريا بوسط أوروبا وتبلغ طاقته حوالي 1.4 مليون برميل يومياً. وطبعاً لا تستطيع أوروبا الاستغناء عن هذه الكمية الكبيرة. لأنه لا يمكن تعويضها بشرائها من طرف ثالث كما يحدث في النفط المنقول بحراً.

هل يشجع نجاح معاقبة روسيا على إقرار الكونغرس مشروع قانون “نوبك”

 

حقيقة العقوبات على النفط الروسي

ولمزيد من توضيح كيفية “الضحك على الذقون”. فإن تصميم العقوبات وكذلك التشدد في تطبيقها، استهدف المنتجات النفطية الروسية وليس النفط الخام. وهو ما أدى إلى تقليص كبير في صادرات المنتجات. مقابل زيادة صادرات النفط الخام. ويصب ذلك في خدمة الهدف المركزي وهو تقليص الإيرادات المالية. لأن المنتجات المكررة تحقق ربحاً أعلى لروسيا وتتضمن قيمة مضافة أعلى من النفط الخام. علماً أن غالبية الدول الأوروبية احتاطت لذلك وقامت باستيراد كميات ضخمة من المنتجات الروسية قبل سريان الحظر.

وتشير بيانات “يورو ستات” إلى انخفاض استيراد الاتحاد الأوروبي للمنتجات النفطية الروسية قابله ارتفاع كبير في الاستيراد من دول معروفة تقليدياً بأنها مصدرة للمنتجات مثل أميركا التي ارتفعت حصتها من إجمالي الواردات الأوروبية من 10 إلى 16 في المئة، والسعودية من 4.8 في المئة إلى 9.10 في المئة. ولكن تبقى الزيادة المثيرة للتساؤلات والاستهجان، هي زيادة الإستيراد من دول غير نفطية مثل الهند التي زادت حصتها إلى 21.1 في المئة والصين بنسبة أعلى وغيرهما.

أوروبا «تتحايل على عقوباتها» 

وهكذا تكتمل الحلقة، روسيا تعجز عن تصدير المنتجات فتضطر إلى بيع النفط الخام بحسومات عالية، إلى أطراف ثالثة. لتقوم هذه الأخيرة بتكريره وإعادة تصديره إلى أوروبا. وكان لافتأً قيام الحكومة الصينية بزيادة الحصص المقررة للمصافي بنحو 50 في المئة لاستيعاب الشحنات الروسية المتزايدة. وذلك ما يفسر الزيادة الكبيرة في صادرات الخام الروسية منذ فرض العقوبات.

تشير أرقام وكالة الطاقة الدولية إلى زيادة هائلة لواردات الهند من النفط الروسي. فإرتفعت بنسبة 800 في المئة  لتصل إلى 900 ألف برميل يومياً في المتوسط. بينما زادت واردات الصين بنسبة 20 في المئة تقريباً. وذلك ما أكده نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك بقوله: “رغم إجراءات الدول غير الصديقة والعقوبات، فقد بلغ إنتاج النفط العام الماضي 535 مليون طن. بارتفاع بواقع 10 ملايين طن عن 2021. وارتفعت الصادرات بنسبة 7 بالمئة”. وقد لجأت روسيا إلى استخدام المخزون الإستراتيجي لمقابلة الطلب المتزايد وتأمين الحد الأقصى من الإيرادات المالية. حيث تراجعت المخزونات كما ذكرت وزارة الطاقة الروسية، إلى 9.2 مليون برميل في مطلع العام الحالي. وهو أدنى مستوى منذ فبراير 2022.

غسيل النفط الروسي والبيع بالروبل

ألا تذكّر طريقة تعامل الدول الأوروبية مع حظر النفط الروسي وتحديد سقف لسعره، بطريقة تعاملها مع رفض الأمتثال لقرار روسيا باستيفاء ثمن الغاز بالروبل. حيث غضت الطرف عن قيام الشركات الأوروبية المستوردة بدفع الثمن لبنك شركة “غازبروم” المستثنى من العقوبات باليورو أو الدولار، بدون أن تحصل على إيصال. فيقوم البنك بتحويل المبلغ إلى روبل ويضعه في حساب كل شركة. ليتم تحويله إلى شركة “غازبروم”. وعندها تحصل الشركات الأوروبية على إيصالات الدفع.

والخلاصة.. عقوبات زائفة أو ملتبسة. يقابلها موجة غض الطرف عن تهريب وغسيل النفط الروسي. ما يؤشر إلى أن الهدف هو تثبيت معادلة الإنتاج بالحد الأقصى. والبيع بالحد الأدنى من الأسعار. وذلك ما يضمن رمان روسيا من العائدات المالية. والنجاح المحقق حتى الآن يثير التساؤلات والمخاوف من إقدام أميركا والدول الغربية على تمرير مشروع قانون “نوبك” ما يسمح لها بتعميم تلك المعادلة على بقية الدول النفطية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى