الوصفة الكارثية: تدمير الطاقة الاحفورية لتطوير الطاقة المتجددة

أزمة الطاقة الحالية في العالم وفي أوروبا تحديداً، هي مجرد نموذج للنتائج الكارثية للسياسة التي تستهدف تدمير الطاقة الأحفورية كشرط لتطوير الطاقة النظيفة. وهي سياسة يبدو أنها تستند إلى متطلبات تصفية حسابات سياسية بين أميركا والدول الغربية، من جهة والصين وروسيا وبعض الدول النفطية من جهة أخرى. حتى لو أدى ذلك إلى تهديد أمن إمدادات الطاقة وإشعال أزمة اقتصادية عالمية، وحرمان الدول الفقيرة وفقراء كل الدول من مصادر الطاقة.

المطلوب التراجع عن هذه السياسات، لصالح مقاربة منطقية تقوم على تطوير الطاقة النظيفة والأحفورية مع السعي «لتنظيف» الطاقة الأحفورية عبر تقنية استخلاص الكربون لانتاج الهيدورجين والأمونيا بكل ألوانهما من البني إلى الأزرق والفيروزي. وهذه المقاربة هي الوحيدة الكفيلة بتحقيق هدف «صافي انبعاثات صفري» في 2050.
يلاحظ أن هذه الأزمة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، ولكن ديناميكيات السوق كانت تتكفل بإحداث التوازن في الأسواق في الأزمات السابقة، بفعل حرص الدول المنتجة على حماية هذا التوازن. حيث كانت دول «الأوبك» تبادر إلى تخفيض انتاجها وتوزيع الحصص في ما بينها إذا انخفضت الأسعار، أو إلى الضخ بأقصى طاقاتها في حال ارتفاعها.

وكالة الطاقة الدولية: النفط سيبقى مكوناً رئيسياً في مزيج الطاقة في 2050، حتى لو تحقق “حلم” تصفير الانبعاثات 

ولطالما لعبت السعودية دور المنتج المرن مضحية بذلك بموارد مالية كبيرة. ولكن هذا الوضع تغير حالياً لأن السعودية وبقية الدول النفطية، ترى أنها مستهدفة مباشرة بسياسات عشوائية متسرعة للتخلي عن الوقود الإحفوري. ولذلك يلاحظ أن دول «أوبك+» لم تستجب لكل الضعوط السياسية خاصة من قبل الولايات المتحدة لزيادة الانتاج. ويأتي موقف الدول المنتجة للنفط والغاز في إطار «الدفاع المشروع عن النفس» في ظل السياسات والإجراءات الأميركية والغربية عموماً التي تستهدف القضاء على صناعة الوقود الأحفوري باعتباره السبب الرئيسي للانبعاثات.
التهديد بمجلس الأمن
وتتراوح هذه السياسات بين وضع معايير صارمة للحد من الانبعاثات وفق جدول زمني ضيق وفرض تطبيقها باتفاقيات دولية، وإلزام الدول بتغيير القوانين الوطنية بما يتلاءم معها، مروراً بتقييد بل منع تمويل الأنشطة المرتبطة بالوقود الأحفوري، وصولاً الى نقل ملف الانبعاثات إلى مجلس الأمن والسعي لاستصدار قرار باعتبار «التغير المناخي المناخي خطراً على السلم والأمن والاستقرار العالمي»، والذي اضطرت روسيا لإسقاطه باستخدام حق النقض «الفيتو». ولنقله أيضاً إلى المحكمة الجنائية الدولية باعتباره «جريمة إبادة» وتصنيفه كجريمة خامسة ضد الإنسانية.
انهيار الاستثمارات النفطية
«الرسالة الملغومة» وصلت إلى الشركات النفطية التي رضخت بالسرعة المتوقعة للتهديد، فانهارت الاستثمارات في قطاع النفط والغاز. وذلك هو السبب الحقيقي للأزمة الحالية التي قد تتوالد أزمات أشد إذا لم تتم معالجة السبب. وهو ما أكده رئيس مجموعة هاليبورتون جيف ميللر بقوله «شهدنا انخفاضاً حاداً في الاستثمارات النفطية بلغت نسبته نحو 50 في المئة عن معدلاته التاريخية، ووصلت إلى 75 في المئة في غرب أفريقيا». ويضيف «بلغت الاستثمارات النفطية في العام 2020 حوالي 300 مليار دولار، مقابل حوالي 500 مليار دولار كمعدل وسطي للسنوات الخمس الماضية.
أما الأمين العام لمنتدى الطاقة العالمي فاعتبر ان إعادة التوازن إلى الأسواق يتطلب تشجيع شركات النفط العالمية والوطنية على زيادة استثماراتها لتعود إلى مستوياتها السابقة عند حدود 525 مليار دولار سنوياً خلال السنوات المقبلة وحتى العام 2030 ».

سياسات محاربة الوقود الأحفوري وصلت إلى مجلس الأمن باعتبار “التغير المناخي المناخي خطراً على الأمن والاستقرار العالمي”

إذن يمكن القول أن المشكلة هي في الهوة الكبيرة ما بين متطلبات التغير المناخي والطلب الفعلي على النفط والغاز في الأسواق العالمية، ما أدى تقلص الاستثمارات وأثارة «الهلع » من عدم كفاية الإمدادات على المديين القصير والمتوسط.
التطوير لا التدمير
المطلوب سياسات تحقق انتقال متوازن للطاقة يقوم على تطوير الطاقات النظيفة وليس تدمير الطاقة الأحفورية، وهو ما طالب به الرئيس وكبير الإداريين التنفيذيين في شركة «أرامكو» أمين الناصر، معتبراً أن «مواصلة الاستثمار في الوقود الأحفوري ضرورة لتجنب أزمات اقتصادية وتضخم واضطرابات اجتماعية، قد تؤدي إلى التخلي عن بعض أهداف تقليص الانبعاثات» وقال ان الحديث عن تحول العالم بين ليلة وضحاها إلى الطاقات المستدامة هو افتراض غير واقعي وخطأ كبير».
وسيؤدي الضغط العشوائي لتخفيض استخدام الوقود الأحفوري وكذلك الاستثمارات إلى نتائج عكسية تتمثل في الدخول في حلقة مفرغة من انخفاض الاستثمارات والعرض، يقابله استمرار الطلب وارتفاع الأسعار وتكون النتيجة اختلال عميق في الاقتصاد العالمي وخلق موجة عارمة من التضخم كما يحدث حالياً. وهو ما حذر منه صراحة وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان خلال مشاركته في فعاليات ملتقى ميزانية السعودية 2022 بقوله « قد نواجه أزمة طاقة خطيرة نتيجة عدم وجود إنفاق استثماري كافٍ للمحافظة على الطاقة الإنتاجية وزيادتها».
لا بديل عن النفط
يتصف الحديث عن التخلص من النفط والغاز، بقدر كبير من العشوائية والمبالغات. فحتى لو تحقق «حلم صافي انبعاثات صفري» في العام 2050، فسيبقى النفط والغاز عنصراً رئيسياً في مزيج الطاقة العالمي، كما تقول وكالة الطاقة الدولية في احدث تقاريرها. وهناك تضارب شديد في تقديرات الحاجة إلى الوقود الأحفوري، ففي حين تتوقع وكالة الطاقة الدولية تراجع الطلب من 80 في المئة حالياً إلى نحو 20 في المئة بحلول عام 2050، تتوقع منظمة «أوبك» ان تتراجع النسبة إلى 70 في المئة فقط، مع ترجيحها لاستمرار نمو الطلب حتى العام 2045.
وبغض النظر عن دقة هذه السيناريوهات، ووفقاً لأكثرها «تفاؤلاً» بالتخلص من النفط والغاز، فستبقى حصته «بين 28 و30 في المئة من مجمل الطلب على الطاقة حتى العام 2045 على الأقل، مقارنة مع 30 في المئة في 2020. مع فارق مهم وهو أن حجم الطلب العالمي على الطاقة سيكون تقريباً ضعف ما هو عليه الآن. واعتبر ان دول منظمة «أوبك» سيمثلون حصة أكبر في السوق، ما يعني أن حصة السعودية ستزداد أيضاً»، مضيفاً أنه في حال إيقاف الاستثمار في قطاع التنقيب كما تطالب وكالة الطاقة الدولية وبعض الجهات الأخرى، فقد ينخفض الإنتاج بنحو 30 مليون برميل في 2030.
دول الخليج الأقل تضرراً
طبعاً ستؤدي تلك التطورات إلى تركيز الانتاج العالمي في دول قليلة وفي مقدمتها دول الخليج التي تمتاز بضخامة احتياطاتها وضآلة تكاليف انتاجها وامتلاكها بنية تحتية متكاملة وقدرات مالية كافية للاستثمار في التنقيب والتطوير والانتاج.
وستخرج من السوق الدول ذات التكاليف المرتفعة والاحتياطات المحدودة، كمنطقة القطب الشمالي الروسية، النرويج، بريطانيا وحتى أميركا التي ستضطر لتقييد انتاجها للحفاظ على مصداقيتها في مسألة التغير المناخي.

وزير الطاقة السعودي: واجهنا عدم اليقين في أسواق النفط باليقين بصوابية الاستثمار لتعزيزقدراتنا الانتاجية


ويتوقع أن يؤدي هذا الوضع في النهاية إلى استمرار بل ارتفاع الإيرادات المالية النفطية لدول الخليج وتعزيز مقومات التنمية فيها إضافة إلى تكريس نفوذها الجيوسياسي، وذلك ما عناه وزير الطاقة السعودي بقوله قال ان «السعودية أقدمت في أوج أزمة كورونا وحالة عدم اليقين والتردد من قبل الجميع، على الاستثمار لزيادة طاقتها الانتاجية.
واعتبر أن «تردد الدول والمستثمرين في الاستثمار النفطي، هو نعمة للمستثمر الذي يبني خطواته على معالجة عدم اليقين باليقين». وقال «في العام 2022 كانت السعودية الدولة الوحيدة التي عملت على زيادة الطاقة الإنتاجية وتلبية الطلب المتزايد، بجانب دول مثل الإمارات، وربما الكويت».
وختم بالقول ما يحدث تتجمع عوامل مخيفة في صناعة النفط والغاز، ولكنها في الحقيقة هي عوامل مطمئنة لنا، وما يقال عن عن العام 2030 وحتى 2050، هو مبالغ فيه، ولن يتحقق، هناك تشويش لاقناعنا بوجود حالة غموض للصناعة النفطية.
وأشار وزير الطاقة السعودي إلى التناقض الكبير بين توقعات ومطالب وكالة الطاقة الدولية بشأن الوقود الأحفوري ومستقبله، «فهي تحث على وقف الاستثمار في الطاقة التقليدية، ومن جهة أخرى تحذر من تقلص الإنتاج مستقبلاً وتأثيره على الأسواق».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى