; قمة المناخ بين "دجل" الأغنياء وتمرد الفقراء - طاقة الشرق TAQAMENA

قمة المناخ بين “دجل”
الأغنياء وتمرد الفقراء

مع أن قضية التغير المناخي، قد تكون الأكثر خطورة على المستوى الجيوسياسي والانسائي ومصير كوكب الأرض، إلا أن مقاربة الدول الصناعية لها قد تكون الأكثر دجلاً وديماغوجية. وهو ما يتجلى بأبشع صوره في مؤتمرات قمة المناخ منذ انعقاد الدورة الأولى في برلين العام 1995، وحتى الدورة الأخيرة “كوب 27” المنعقدة حالياً في شرم الشيخ بمصر.

مارست الدول الكبرى على مدى 26 دورة من مؤتمرات المناخ كل أنواع المناورات ورسم السياسات وتوقيع الاتفاقيات وإعلان الإلتزامات والتعهدات، ولكن بدون جدية تذكر في التنفيذ. والسبب بدون شرح طويل، هو أن الإلتزام بالمعايير المناخية والبيئية سيكون على حساب المصالح الاقتصادية. فتخفيض انبعاثات الغازات الأربعة الرئيسية المسببة للاحتباس الحراري وفي مقدمتها الكربون والميثان الناجمان عن الوقود الإحفوري الرخيص، يعني تقلص الأنشطة الاقتصادية وتراجع النمو والإضطرار لاستخدام مصادر الطاقة المتجددة الأكثر تكلفة والتي يتطلب تطويرها استثمارات بتريليونات الدولارات. كما يعني أيضاً ضرورة ضخ مئات مليارات الدولارات لمساعدة الدول النامية على الالتزام بالمعايير المناخية. ولذلك سعت الدول الصناعية إلى تقاذف مسؤولية كارثة التغير المناخي، وإلى اعتبار كل دولة الاتفاقيات الدولية مجرد فرصة لتعزيز قدراتها التنافسية بمواجهة الدول الأخرى.

وما يحدث من مناورات في مؤتمر “كوب 27” للتملص من الالتزامات والالتفاف على الاتفاقيات، ليس سوى تكرار ممل لما حدث منذ توقيع أتفاقية كيوتو الشهيرة في العام 1997 والتي جاءت كخطوة تنفيذية لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن التغير المناخي الموقعة في العام 1992 في ريو دي جانيرو بالبرازيل خلال المؤتمر المعروف بإسم “قمة الأرض”. وشكلت الاتفاقية في حينه نصراً مبيناً للصين وروسيا والهند، لأنها نصت على فترة سماح لها. وهو ما دفع إدارة جورج بوش، إلى الانسحاب منها في العام 2001، لأنها ” لا تحقق المصالح الاقتصادية لأميركا”. أما الاتفاقية الثانية الأكثر شهرة وأهمية، فهي اتفاقية باريس الموقعة خلال مؤتمر “كوب 21” في العام 2015. ومع ان الاتفاقية كما وصفها لوران فابيوس الذي قدم مشروعها النهائي للمؤتمر، “دائمة ومتوازنة وملزمة قانونياً لكل الدول”، فلم يتم الإلتزام بها من قبل كل الدول تقريباً بما فيها أميركا طبعاً. وقد أعلن الرئيس دونالد ترامب انسحاب بلاده منها في 1 حزيران 2017، لأنها “غير متوازنة ولا تحقق مصالح أميركا”. وليقوم الرئيس بايدن بإعلان العودة إلى الاتفاقية ليس لتنفيذها بل لامتصاص النقمة والدخول في حلقة جديدة من المرواغة.

ولتبيان حجم المرواغة، نشير إلى أن القضايا المطروحة على جدول أعمال مؤتمر “كوب 27” هي ذاتها وبالنص الحرفي أحيانا التي تطرح منذ المؤتمر الأول “كوب 1” والتي نصت عليها أيضاً اتفاقيتي كيوتو وباريس. وتتلخص في قضيتين: الأولى تحديد مسؤولية الدول في التسبب بمشكلة الاحتباس الحراري والتزامها بتخفيض الانبعاثات بنسب محددة سنوياً وصولاً إلى الصافي الصفري. والثانية هي عدالة توزيع التبعات وتوفير التمويل اللازم للدول النامية للتكيف مع متطلبات مكافحة التغير المناخي. وهو ما اصطلح على تسميته آلية الخسائر والأضرار. ونشرح باختصار:

التمويل وحساب “الأضرار والخسائر”

تهيمن قضية التمويل على “مناخ شرم الشيخ”، ويهدد الخلاف الحاد بين الدول الفقيرة والغنية ليس بفشل القمة، بل بتعطيل جهود مكافحة التغير المناخي. حيث تصر الدول النامية على التوصل إلى نتائج ملموسة تتمثل بالتزام نهائي من قبل البلدان الغنية بتحمل تكلفة “الخسائر والأضرار”. على أن تتم ترجمة هذا الالتزام بإنشاء صندوق خاص يمول من قبل الدول الغنية لتقديم مساعدات ومنح عادلة للبلدان النامية. ولا تزال الدول الغنية ترفض بشدة اعتماد أي آلية محددة للتعويضات والمساعدات. وتصر على الاكتفاء بإعلان التعهدات مع السعي لاستخدام موارد المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي لتقديم “ما تيسر” من قروض ومنح. وهو ما وصفته منظمة أوكسفام  “بالتمويلات المناخية المضللة”.

ونجحت أمريكا وشركائها بما فيهم الصين، في امتصاص غضب وتمرد الدول النامية وخصوصاً الأفريقية منها، بإعلان موافقتها على بحث قضية “الخسائر والأضرار”. وقد تم إدراج هذه القضية على جدول أعمال مؤتمر “كوب 27” بناء على اقتراح قدمته مصر. علماً ان هذه القضية كانت موضع اتفاق بالإجماع في “اتفاقية كيوتو”، وليست مجرد موضوع للبحث.

ويجدر التنبه هنا، إلى أن الاتفاق على آلية للتعويض والتمويل لن يضمن أبداً توفير الأموال. وخير دليل على ذلك هو مبلغ الـ 100 مليار دولار سنوياً، الذي تحول إلى ما يشبه”النكتة السمجة”. فهذا المبلغ التزمت به الدول المتقدمة في اجتماع كوبنهاغن في العام 2009 ولم يتم الوفاء به. ثم عادت إلى الالتزام به في “اتفاقية باريس” العام 2015 ولمدة خمس سنوات. ولكن ما تم حشده فعلياً لم يتجاوز 83.3 مليار دولار من اصل 500 مليار دولار. ولمزيد من التوضيح نشير إلى ان هذه الدول “المتقدمة جداً” أعلنت في مؤتمر “كوب 26” عن مبادرة خاصة “بالخسائر والأضرار” لمدة ثلاث سنوات، ولتكون النتيجة تعهدات بمبلغ 2 مليون جنيه إسترليني ومليون يورو من اسكتلندا وبلجيكا إضافة 13 مليون دولار من الدانمراك. في حين تقدر الاحتياجات السنوية لتمويل المناخ بأكثر من 5 تريليونات في السنوات العشر القادمة.  وهو ما يستدعي تطوير طرق مبتكرة لحشد التمويل الحكومي إلى جانب الاستثمارات الخاصة وتطوير وحوكمة آلية أسواق الكربون الخ..

ويريدون إقناع الدول النامية بأنهم جادون في توفير التمويل لها للتكيف وتحقيق التوازن بين إزالة الكربون من اقتصاداتها وتأمين التنمية الاقتصادية المستدامة لشعوبها.

الالتزام بتخفيض الانبعاثات

التزمت الدول بالوصول إلى صافي الصفر من الانبعاثات بحلول العام 2050، وذلك بهدف الحفاظ على زيادة حرارة الأرض بواقع 1.5 درجة مئوية عن مستوياتها قبيل الثورة الصناعية الأولى. وقدمت من أجل ذلك خطط وطنية متضمنة التزامات سنوية بنسب تخفيض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. والطريف انه اذا ما تم تنفيذ جميع هذه الالتزامات، يمكن ان نصل إلى 1.8 درجة مئوية بحلول نهاية القرن حسب وكالة الطاقة الدولية.

ولكن ما حدث هو العكس تماما، إذ أعلنت الأمم المتحدة في احدث تقييم لتنفيذ الالتزامات الوطنية، أنه اعتبارا من أواخر سبتمبر 2022  ولغاية العام 2030، سيكون هناك زيادة في الانبعاثات بنسبة 10.6 في المئة، بدل من الانخفاض بنسبة 45 في المئة المطلوبة لتحقيق مسار 1.5 درجة مئوية. ورجحت حدوث ما أسمته “ارتفاعاً كارثياً” في درجات الحرارة بمقدار 2.5 درجة مئوية بحلول نهاية القرن. أما الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، فأعلنت قبيل مؤتمر “كوب 27” ان انبعاثات غازات الدفيئة الرئيسية الثلاثة (ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز) وصلت في الغلاف الجوي إلى مستويات قياسية في نهاية العام 2021.

وليبقى التغير المناخي القضية الأكثر خطورة على مصير البشرية والكوكب، والتي يستحيل التصدي لها بالمناورات والتنصل من الإلتزامات.

نشر في موقع “أساس ميديا” بتاريخ 11/112022

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى