وكالة الطاقة الدولية: أخطاء التقديرات وخطايا السياسات
حمل التقريران الصادران عن منظمة البلدان المصدرة للنفط “أوبك” و وكالة الطاقة الدولية، كالعادة تناقضاً كبيراً في تقديرات الطلب النفط. والمرجح أن يتبين، كالعادة أيضاً، خطأ تقديرات الوكالة، التي “لديها موهبة خاصة أن تكون مخطئة باستمرار” كما قال وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان. واضعاً هذه “الموهبة” في سياقها الصحيح وهو أنها “سبب معظم التقلبات وعدم الاستقرار في أسواق النفط”.
وتطرح “موهبة” خطأ التقديرات، معطوفا على خطأ السياسات والخيارات، خطورة أسباب هذه “الموهبة” . إذ لا يصح إرجاعها لعدم المعرفة وقلة الخبرة. فالوكالة لديها عقول وخبرات مرموقة. كما أن معطيات ومتغيرات أسواق الطاقة معروفة وليست “علم ذرة”. وعليه فإن السبب الحقيقي هو سياسي. ويكمن في ما نص عليه نظام تأسيس الوكالة وأهدافها. فهي تأسست من قبل الدول الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، في العام 1974 كرد على حظر النفط العربي عن بعض الدول المؤيدة لإسرائيل عقب حرب أكتوبر. ومن بين أهدافها ضمان مصادر مستقرة ومنخفضة التكاليف للطاقة. وإدارة نظام معلوماتي لأسواق النفط، وتطوير مصادر بديلة للطاقة الأحفورية. وبمعنى أوضح، منع الدول النامية المنتجة للنفط من الإمساك بزمام ثروتها النفطية، مع السعي لتوفير أقصى قدر من الإمدادات بأقل الأسعار.
أخطاء التقديرات..
تكتسب التوقعات الصادرة عن جهات دولية مثل وكالة الطاقة ومنظمة أوبك أهمية كبيرة في استقرار الأسواق. وهي تحظى باهتمام الدول المنتجة والمستهلكة التي غالباً ما تعتمد عليها لرسم سياساتها.
والحقيقة أن وكالة الطاقة الدولية تمتلك تاريخاً “عريقاً” مع التوقعات الخاطئة أو الأصح المضللة والهادفة إلى تحقيق أغراض سياسية. لعل أطرفها هو التقرير الشهير الصادر في 2004. وقد توقعت فيه أن يهبط سعر البرميل إلى 22 دولارا بحلول العام 2011. لكنه قفز إلى 110 دولارات. أما أكثرها دلالة، فهو التقرير الصادر في العام 2008. وتوقعت فيه أن يصل الطلب العالمي على النفط إلى 105 ملايين برميل يومياً. ولكن فريقاً من الباحثين في جامعة أوبسالا بالسويد قام بالتدقيق في التقرير 2008. وتوصل إلى أن الطلب لن يتجاوز 75 م/ب/ي. واعتبر رئيس الفريق د. كييل ألكلت، أن تقرير الوكالة ما هو إلا «تقرير سياسي».
مثال آخر على “تسييس” تقارير الوكالة، كشفه تقرير لوكالة بلومبرغ نشر أواخر العام الماضي. وذكر أن توقعات “أوبك” لحجم الطلب في الربع الرابع كانت أكثر دقة من توقعات منافستها وكالة الطاقة الدولية”. ولأن “أوبك” «تشتغل نفط واقتصاد» فقد قررت إجراء تخفيض كبير بالإنتاج. وتابعته خلال العام الحالي بإجراء تخفيض طوعي. أما الوكالة التي «تشتغل سياسة» فكانت تطالب بزيادة الإنتاج. ولتأكيد الطابع السياسي لهذه المطالبة، نذكر بأنه حين فشلت التقارير والتوقعات، تدخل الرئيس بايدن شخصياً بزيارة السعودية في محاولة غير ناجحة لزيادة الإنتاج أو على الأقل عدم تخفيضه.
تاريخ عريق من التوقعات المضللة، وفريق باحثين من جامعة أوبسالا السويدية يصف أحد التقارير بأنه مجرد «تقرير سياسي»
وعند هذا الحد قررت “أوبك” في أبريل 2022 ـ ولو متأخرة ـ التوقف عن استخدام بيانات وتوقعات وكالة الطاقة الدولية. وذلك بعد تصاعد الاتهامات للوكالة بأن توقعاتها ونظرتها للأسواق تفتقر إلى الدقة والموضوعية. وبأنها تقوم بتطويع الأرقام لخدمة مصالح الدول الأعضاء فيها. وقد عبر عن ذلك وزير الطاقة الإماراتي سهيل المزروعي بقوله: “إن هيئة دولية مثل وكالة الطاقة الدولية يفترض أن تكون أكثر واقعية وألا تصدر معلومات مضللة”.
… وخطايا السياسات
المسألة الأخرى الأكثر خطورة من التوقعات الخاطئة التي تربك الأسواق. هي السياسات والخيارات الخاطئة التي تدمر ركائز استقرار الأسواق. ولعل أكثرها أهمية كانت الضغوط والمطالبات من قبل الوكالة والدول الاعضاء للشركات النفطية والدول المنتجة، بتخفيض الاستثمارات في الوقود الأحفوري. وترافقت تلك الضغوط مع اعتماد سياسات وإجراءات وإقرار قوانين لمحاربة النفط والغاز. وأدى ذلك إلى تراجع الاستثمارات في الوقود الأحفوري في العام 2020 بحوالي 50 في المئة عن معدلاتها التاريخية. قبل أن تعاود الارتفاع تحت ضغط انهيار الركائز الثلاثة لاستقرار أسواق الطاقة. وهي وفرة الإمدادات وكفاية الطاقات الإنتاجية، والمخزونات الإستراتيجية لدى الدول الأعضاء في الوكالة. ومعروف أنه تم استخدام جزء كبير من هذه المخزونات “لإغراق السوق وكسر السعر”.
بالمقابل، أثبتت التطورات أن تقديرات وسياسات “أوبك” أو الدول الرئيسية فيها، كانت صائبة. حيث اندفعت السعودية والإمارات وغيرها، وفي ظل أزمة كورونا وحالة عدم اليقين، إلى الاستثمار لزيادة طاقاتها الإنتاجية. وهو ما عبر عنه وزير الطاقة السعودي في حينه بالقول «إن تردد الشركات والمستثمرين، هو نعمة للمستثمر الذي يبني خطواته على معالجة عدم اليقين باليقين».
… هل يصدق العالم توقعات وكالة الطاقة الدولية بأن عصر الوقود الأحفوري سينتهي قريباً لصالح الطاقة النظيفة. أم يصدق الأمين العام لـ “أوبك” هيثم الغيص الذي اعتبر أن هذا الوقود سيبقى عاملاً رئيسياً في دعم النمو الاقتصادي العالمي والازدهار طوال العقود القادمة”؟.