بين تمويل التنمية والمناخ:
هل يتشظى البنك الدولي بقيادة «بانغا» (1 من 2)
هل تكون استقالة رئيس البنك الدولي «العنيد» ديفيد مالباس، قبل عام من نهاية ولايته، وتعيين أجاي بانغا «المطواع»، دليل على نجاح أميركا في تحويل قطار البنك من سكة دعم التنمية إلى سكة محاربة التغير المناخي. أم يكون مؤشراً على قرب انفجار الخلافات داخل البنك وبقية مؤسسات بريتون وودز بين أميركا والدول الغربية من جهة والصين والدول النامية من جهة ثانية.
بدأت القصة مع تبني الولايات المتحدة خياراً استراتيجياً بالخروج من نظام الطاقة العالمي المعتمد على الوقود الأحفوري بما يحمله من تحالفات جيوسياسة مرتبطة به. لصالح نظام الطاقة المتجددة، تحت ستار محاربة التغير المناخي. وواجهت عملية الانتقال معضلة إحجام الدول الصناعية عن توفير التمويل للدول النامية لمساعدتها في عملية الانتقال والتكيف. وخير دليل على ذلك، هو التلكؤ بدفع مبلغ الـ 100 مليار دولار الشهير الذي التزمت به بموجب اتفاقية باريس في العام 2015.
أميركا تضغط لتحويل موارد البنك من تمويل التنمية إلى تمويل المناح، ومعارضة شرسة من الصين والدول النامية
ولذلك سعت أميركا ودول مجموعة السبع بحكم قوتها التصويتية إلى إجبار مجموعة البنك الدولي وبقية المؤسسات الدولية، على زيادة تمويل الأنشطة المرتبطة بالطاقة المتجددة والتغير المناخي. وطبعاً المشكلة ليست في ضرورة تمويل هذه الأنشطة. بل في نقل التمويل من أنشطة التنمية ومكافحة الفقر. لأن موارد البنك لا تكفي لتمويل النشاطين معاً. ونجحت الدول الغربية في ذلك بشكل جزئي مع إقرار مجموعة البنك الدولي خطة العمل الأولى بشأن تغيّر المناخ (2015-2020). ونجحت بشكل كامل تقريباً مع إقرار خطة العمل الثانية (2021-2025)، التي ركزت على تمويل المناخ واعتماد معيار مراعاة البيئة في المشروعات الممولة، ودمج الأهداف المناخية في أهداف التنمية. وشهد العام 2021 وحده تقديم حوالي 26 مليار لتمويل الأنشطة المناخية وأنشطة التكيف. أي ما يعادل ثلثي ما قدمته كل المؤسسات متعددة الأطراف.
«سقوط أقنعة» التنمية والمناخ
وهنا وقعت الواقعة بين الدول النامية والصين التي رأت في ذلك تحولاً جذرياً في نموذج عمل البنك، التي صعدت الضغوط لمواصلة تمويل برامج التنمية التقليدية. وبين أميركا ومجموعة السبعة من جهة أخرى التي تصر على تحويل التمويل إلى التغير المناخي. ولخص المسؤول السابق في البنك فيجايا راماشاندران، حقيقة الوضع بقوله: «زيادة التمويل للأنشطة المناخية سيكون على حساب أنشطة التنمية، والإيحاء بعدم وجود مقايضة هو نوع من التضليل«
وعند طرح السؤال البديهي؛ لماذا لا تقوم مجموعة البنك الدولي بزيادة الإقراض لتمويل النشاطين معاً، تسقط «أقنعة التنمية والمناخ» ليظهر وجه الهيمنة والمصالح. فالقدرة الإقراضية للبنك محددة بقواعد معروفة بـ “حد الإقراض القانوني” او كفاية رأس المال. بحيث يجب أن لا يقل رأس المال المدفوع عن 20 في المئة من إجمالي القروض (أو أن لا تتجاوز القروض خمسة أضعاف إجمالي حقوق المساهمين). ولذلك فإن زيادة الإقراض تتم بطريقتين لا ثالث لهما:
موارد البنك لا تكفي لتمويل النشاطين معاً، وأميركا ترفض زيادة رأس المال لأنه يقوض سيطرتها
الطريقة الأولى: تخفيض نسبة كفاية رأس المال. وذلك يهدد بتخفيض التصنيف الائتماني للبنك من درجة AAA، ما يؤدي بالتالي إلى زيادة تكلفة الإقراض على الدول النامية. وهو أمر ترفضه الدول النامية والصين وبعض الدول الأوروبية. وكان لافتاً في هذا السياق تقرير صادر عن مجموعة العشرين يطالب بإزالة حدود الإقراض من قوانين البنك بالكامل.
الطريقة الثانية: هي زيادة رأس المال المدفوع. وذلك يتم بطريقتين لا ثالث لهما أيضاً. إما من خلال الجزء القابل للاستدعاء من رأس المال. أي توزيع قيمة الزيادة على الدول بحسب الحصص الحالية. ما يعني تحمل أميركا للجزء الأكبر من الزيادة بحكم استئثارها بالحصة الأكبر. وإما بتغيير توزيع الحصص عبر السماح للدول القادرة والراغبة مثل الصين بتمويل الزيادة وبالتالي زيادة حصتها على حساب أميركا.
جون كيري: لا جدوى من مطالبة الكونجرس بالأموال لمنحها إلى دول أخرى من أجل المناخ
ولذلك فإن زيادة رأس المال خيار شبه مستحيل بسبب الرفض القاطع من قبل أميركا ومجموعة السبعة له. وعبر عن ذلك بشكل مباشر مبعوث المناخ جون كيري بقوله: «إدارة بايدن لا ترى أي جدوى من مطالبة الكونجرس بمزيد من الأموال لمنحها إلى دول أخرى من أجل المناخ». ويبقى التلخيص الأكثر دلالة وطرافة للوضع، قول أحد المدراء التنفيذيين للبنك الدولي: « إن زيادة رأس المال هي بمثابة الجنة، لكن بلوغها يستوجب الموت أولاً.«
حل أعرج
لذلك إرتأت دول مجموعة السبع خلال اجتماعات الربيع الأخيرة، تمرير بدعة تخفيض معدل كفاية رأس المال بنقطة واحدة ليصبح 19 في المئة. مع علمهم المسبق ان هذه الخطوة لن ترفع القدرة الإقراضية بأكثر من 4 مليارات دولار سنوياً. وهو رقم هزيل بالمقارنة مع الاحتياجات الفعلية. إذ أظهرت دراسة أجراها البنك الدولي نفسه، أن توفير التمويل لنشاطي التنمية والمناخ معاً أي تحقيق أهداف إتفاقية باريس، وأهداف التنمية المستدامة SDGs) ، يتطلب حوالي 2.5 تريليون دولار سنوياً حتى العام 2030
إقرأ في الجزء الثاني:
هل تكون استقالة مالباس و «تعيين» بانغا بديلاً له، مقدمة لإنفجار الخلاف في مجموعة البنك الدولي، وربما انتقاله إلى بقية المؤسسات الدولية. خاصة وإن عدداً كبيراً من المدراء التنفيذيين يعارضون سياسة بانغا، ويحظون بدعم كبير من الصين والدول النامية.