; الصين ـ أميركا: هل تخاطر الصين «بعسكرة» طريق الحرير (3 من 3) - طاقة الشرق TAQAMENA

الصين ـ أميركا: هل تخاطر الصين «بعسكرة» طريق الحرير (3 من 3)

أشرنا في الجزأين، الأول والثاني، إلى انتهاء حالة «المساكنة الهانئة» بين أميركا والصين. وتحولها إلى حرب باردة تسعى خلالها أميركا إلى محاصرة الصين. ودفعها إلى الاختيار بين تبنّي الرأسمالية فتكون جزءاً من النظام الدولي يمكن منافسته. أو الشيوعية فتعزل نفسها داخل سورها العظيم وتصبح عدواً يجب محاربته. وقد اختارت الصين تثبيت نموذج الحكم القائم على المزاوجة بين النظامين الشيوعي والرأسمالي. معلنة تشديد قبضة الحزب الشيوعي مع تجديد شباب الماركسية المصيننة.

السؤال الآن: هل تتمكّن أميركا من فرض الخيار الثاني؟ أي عزل الصين لتحقيق نصر باهر عليها في الحرب الباردة شبيه بنصرها على الاتحاد السوفييتي؟ أم تنجح الصين في تثبيت الشقّ الثاني من نموذج الحكم فيها، وتحافظ على موقعها كمكوّن رئيسي في النظام الرأسمالي الدولي مع تمسكها بنظامها الشيوعي؟

حال الصين وأوراق قوّتها

بذلت كل من أميركا والصين على مدى السنوات الماضية جهوداً حثيثة لتجميع أوراق القوّة اللازمة لخوض غمار الحرب الباردة. وقامتا بمراكمة الأسلحة المناسبة لكلّ ميدان من ميادينها الصناعية والتجارية والمالية والتكنولوجية. وصولاً إلى القوة العسكرية والتحالفات الدولية.

ولمّا كانت أوراق القوة الأميركية معروفة، فقد يكون الأجدى التركيز على أوراق القوة الصينية غير المعروفة جيّداً. في محاولة استقراء تطوّرات هذه الحرب. ويمكن اختصار أبرز أوراق القوة الصينية في التالي:

مبادرة الحزام والطريق

أوّلاً، تحوّلت الصين إلى مكوّن رئيسي في النظام الاقتصادي العالمي. بشكل يصعب أو يستحيل فكّ الترابط بين اقتصادها واقتصادات بقية الدول وفي مقدمتها أميركا. ليس لأنّ الصين متحكّمة بالإنتاج الصناعي وسلاسل إمداد المنتجات الاستهلاكية الرخيصة، كما يُشاع. بل لأنّها لاعب أساسي في قضية السلم والأمن الدوليَّين. وهي عضو رئيسي في مختلف المنظمات الدولية والإقليمية. وهي شريك فاعل في مواجهة القضايا الدولية الشائكة. كما أنها ثاني أو أول اقتصاد في العالم، وسوق استهلاكية هائلة. ومنتج رئيسي للمكوّنات الصناعية والتقنية المستخدَمة في صناعة آلاف المنتجات في الدول الغربية. وهي مورّد أساسي للأتربة والمعادن النادرة المنتجة داخل الصين أو في المناجم التي تمتلكها في الخارج إلخ…

المحرك الأول للنمو العالمي

وذكر تقرير للبنك الدولي أنّ «الصين تُعتبر أقوى محرّك للنموّ في العالم، وتقدَّر مساهمتها بنحو 35 في المئة من النموّ الاقتصادي العالمي» واعتبر أنّ أهميّتها في توليد النموّ أكبر بثلاثة أضعاف من أهميّة الولايات المتحدة.

قامت أميركا والصين بتجميع أوراق القوّة اللازمة داخلياً وخارجياً، ومراكمة الأسلحة المناسبة لكلّ ميادين المواجهة

ثانياً، أقامت الصين تكتّلات اقتصادية، من أبرزها منظمة شنغهاي للتعاون و«آسيان + 3″» و «بريكس». وتضمّ هذه التكتّلات نصف سكان العالم تقريباً ونحو ثلث الناتج المحلي العالمي. وذهبت بعيداً في تعزيز وجودها ضمن هذه التكتّلات بإعلانها الاستعداد لتسوية المعاملات التجارية مع الدول الأعضاء بالعملات المحليّة، لكن من دون تحقيق نجاح كبير في ذلك حتى الآن.

يضاف إلى ذلك النجاح النسبي الذي حقّقته مبادرة الحزام والطريق في ترسيخ مفهوم جديد للتوسّع والنفوذ الخارجي. يقوم على تشبيك المصالح الاقتصادية والتجارية من خلال مشروعات ضخمة للبنية التحتية. وخاصة في مجالات الموانئ والطرق والسكك الحديدية والمدن الذكية وشبكات الجيل الخامس.

ثالثاً، صعوبة إقناع العالم بمعاداة الصين. ويتخوّف بعض السياسيين الأميركيين أن تؤدّي استراتيجية عزل الصين إلى عزل أميركا حتى عن أقرب حلفائها. خاصة في ظلّ سياسات «الأمركة بدل العولمة» وشعار «أميركا أوّلاً» التي طبّقها الرئيس السابق دونالد ترامب بعد انتخابه. أو الأصحّ التي تمّ انتخابه لتطبيقها. لأنّ خلفه الديمقراطي جو بايدن استمرّ بتطبيقها. وأبرز تجلّياتها سياسة الحواجز التجارية وإجبار الشركات الأميركية على العودة إلى أميركا. وإدارة الظهر للحلفاء إذا أبدوا اعتراضهم على السياسات المضرّة بمصالحهم.

استحالة عزل الصين

كيف سيقنع الرئيس بايدن المستشار الألماني أولاف شولتز بفكّ ارتباط بلاده بالصين. فيما ألمانيا تعتمد على الشركات الصينية لتوفير 208 من أصل 278 سلعة تُصنّف «حسّاسة»، كما ذكر التقرير السنوي للعام 2022-2023 لمجلس الخبراء الاقتصاديين الألماني. أو كيف سيقنع الأمير محمد بن سلمان بالابتعاد عن الصين وهي الشريك التجاري الأوّل للمملكة بنحو 191 مليار ريال للصادرات ونحو 113 مليار ريال للواردات في عام 2021.

لا تقتصر صعوبة حشد التأييد لمعاداة الصين وعزلها على الدول، بل تطال الشعب الأميركي نفسه. فقد أظهر استطلاع للرأي أُجري في عام 2019 أنّ نحو 70 في المئة من الأميركيين يرون ضرورة إقامة علاقات صداقة وتعاون مع الصين. وهي ضعف النسبة المسجلة في العام 1990. في حين اعتبر نحو 42 في المئة فقط أنّ الصين تشكّل تهديداً. وهي النسبة ذاتها تقريباً في 1990.

تتخوّف أميركا من الاستخدام المزدوج العسكري والمدني لمشروعات البنية التحتية والمدن الذكية

يبدو أنّ ذلك «العدوّ الشيوعي الشرّير» المطلوب مقاتلته إرضاء لأميركا، يقدّم للدول وللشعب الأميركي، مزيجاً مربكاً من الفوائد الواضحة مقابل مخاطر محتملة أو متخيّلة. فالصين لم تحاول حتى الآن على الأقلّ ربط العلاقات الاقتصادية بنفوذها السياسي. ولم تعمل من أجل تغيير أنظمة الحكم وفرض أنظمة موالية لها. ويلخّص بول هير من مجلس شيكاغو للشؤون العالمية هذا الوضع بكثير من الدقّة بقوله: «الصين لا تسعى إلى الهيمنة السياسية لأنّها أوّلاً غير قادرة. وثانياً لأنّ ذلك غير ضروري للحفاظ على مصالحها. وأقصى ما تريده هو إقامة نظام عالمي متعدّد الأقطاب يعترف بنموذج الحكم والتنمية الصيني، من دون أن تسعى إلى فرض تطبيقه على الدول الأخرى».

حصر الحرب بأميركا

نجحت الصين، حتى الآن، وبعكس تجربة الاتحاد السوفييتي، في حصر الحرب بهدف إضعاف الهيمنة الأميركية على النظام العالمي وتفرّدها بقيادته. وهي تسعى للمشاركة في هذا النظام لا تغييره. وحجز مقعد لها إلى جانب أميركا لا مكانها. ولذلك يلاحَظ أنّ الصين كانت تقيس «بميزان الذهب» حجم الأضرار الناجمة عن الغارات المتلاحقة التي كانت تشنّها لإضعاف السيطرة الأميركية. وذلك تجنّباً لإغضاب أميركا واستجلاب ردود فعل قويّة. إضافة إلى تجنّب خسارة تأييد الدول الغربية. لأنّها تدرك تماماً أنّ عناصر قوّتها هي عناصر ضعفها. وأن تحقيق الانتصار ليس بالقدرة على شنّ الغارات. بل بالقدرة على تحمّل أضرار الغارات المضادّة. ولذلك يلاحَظ عدم الردّ بقوّة على الحرب التجارية الشعواء التي شنّها الرئيس ترامب واستكملها الرئيس بايدن. وحرصت الصين أيضاً على الإبقاء على احتياطياتها النقدية بالدولار. واكتفت بخفضها بشكل تدريجي وبسيط نسبياً من حوالي 3.9 تريليونات دولار في 2014 إلى حوالي 3 تريليونات دولار، وينطبق ذلك على حيازتها سندات الخزانة الأميركية.

عسكرة طريق الحرير

يبقى التطوّر الأكثر دلالة وخطورة في سياق تجميع أوراق القوة، إقدام الصين على تغيير استراتيجيّتها من اعتماد القوّة الناعمة فقط لترسيخ وجودها الدولي، إلى رفدها بالقوّة العسكرية. أو ما اصطُلح على تسميته «عسكرة طريق الحرير».

القاعدة البحرية الصينية في جيبوتي الصورة من موقع لندن بوليتيكا

يلاحَظ أنّ «تقارير العمل» التي تصدر عن مؤتمرات الحزب الشيوعي، تتضمّن منذ عام 2014 عبارات مثل: «تعزيز النضال العسكري في جميع الاتجاهات والمجالات، وتركيز جهود الجيش للاستعداد للحرب». وتكمن الخطورة في أنّ هذه العبارات ليست كلاماً للاستهلاك. بل تأتي ترجمة لوقائع فعليّة. من بينها على سبيل المثال تغيير عقيدة الجيش الصيني من «الدفاع عن حدود الصين» إلى «حماية مصالح الصين في العالم». وتم ذكر ذلك للمرّة الأولى في الكتاب الأبيض للاستراتيجية العسكرية الصينية لعام 2015 بالنصّ حرفيّاً على: «الاستعداد لعمليات الطوارئ المحتملة في البحار، والتحوّل من التركيز على الدفاع عن الشاطئ إلى مزيج من الحماية الشاطئية والحماية في عرض البحر». وقد أكد تقرير لمؤسسة «راند» نُشر في العام 2016 عن تطوير عقيدة الجيش الصيني أنّ «الردع الاستراتيجي توسع من الاعتماد على السلاح النووي في تسعينيّات القرن الماضي،ليشمل حالياً جميع مكوّنات القوّة الوطنية من قوّات عسكرية وقوّة اقتصادية وقدرات تقنيّة».

تقرير للكونغرس: الصين تمتلك وتشرف على 96 محطة حاويات في 53 دولة، وقد تشكل هذه المَرافق قواعد للجيش الصيني

ترافق ذلك مع بناء سريع ومكثّف للقدرات العسكرية. فأصبحت الصين في عام 2019، وفقاً لتقرير أصدره معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام: «ثاني أكبر منتج للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة، ولم تعد بالتالي دولة مستوردة للسلاح». إضافة إلى قيامها ببناء قوّة بحريّة تتضخّم كمّاً ونوعاً. وبناء قواعد عسكرية، كانت الأولى في جيبوتي. وقد تكون الثانية في ريام في كمبوديا. وأشار تقرير للبنتاغون قُدّم للكونغرس إلى أنّ الصين «تسعى إلى إنشاء قواعد عسكرية في غينيا الاستوائية وكينيا وسيشيل وتنزانيا وأنغولا».

الاستخدام المزدوج المدني والعسكري

تتخوّف أميركا من الاستخدام المزدوج العسكري والمدني للموانئ التجارية ومحطات الحاويات التي تمتلكها أو تديرها شركات صينية، في شتّى أنحاء العالم. وقالت رئيسة لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأميركية الصينية في شهادة أمام الكونغرس عام 2019، إنّ «الشركات الصينية تمتلك أو تشرف على محطات حاويات في 96 ميناءً في 53 دولة، ويمكن أن تكون هذه المَرافق العمود الفقري لعمليات الجيش الصيني».

الخلاصة: لا يعني ذلك أبداً أنّ الصين قادرة على الانتصار في الحرب الباردة «المشتعلة»، بقدر ما يعني أنّ هزيمتها ليست سهلة إن لم تكن مستحيلة. فأميركا كانت وستبقى حتى إشعار آخر القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية الأولى في العالم. وستكون غالبيّة دول العالم، ومن بينها الدول الأعضاء في التكتّلات التي تقودها الصين، مترددةً في إغضاب أميركا إذا اشتدّ الصراع مع الصين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى